قال وليام جيمس :<<لا يحس الراشد الأشياء بل يدركها .>>حلل و ناقش.
مقالة محللة.
من القضايا السيكولوجية التي شغلت, ولا تزال تشغل علماء النفس خاصة , والمهتمين بالدراسات النفسية من مفكرين و فلاسفة عامة,قضية الإحساس و الإدراك والعلاقة بينهما,أعنى هل يمكن القول بإحساس مجرد, ومن ثمة يجب اعتباره كحادثة نفسية مستقلة, أم أن كل إحساس هو إدراك ؟
وفي هذا الصدد انقسم الباحثون فريقين :فريق يرى أنه بالرغم من التداخل القائم بين الإحساس و الإدراك فإن كلا منهما يشكل حادثة نفسية مستقلة خصوصا في مجال الإدراك والإحساسات البصرية , وفريق آخر و على رأسه أصحاب النظرية المعروفة بنظرية الجشطلت , ترى أن كل إحساس هو إدراك , ومن ثمة فلا وجود لإحساس مجرد .
وقبل أن نعرض و نناقش آراء الفريقين ينبغي أن نتعرف بادئ ذي بدء على معنى الإحساس و الإدراك, كل على حدة.ثم نحاول بعد ذلك بيان العلاقة بينهما .
ليس من شك في أن علاقة الإنسان بالعالم الخارجي , تبدأ على شكل إحساسات , فنحن دوما نرى أشياءو نسمع أصوات و نشم روائح ونلمس أجساما و نذوق طعوما , كما نحس بالضغط و الحرارة و البرودة ....الخ. كل هذه الظواهر هي إحساسات أي أنها عبارة عن الأثر النفسي أو الحالة الذهنية أو الشعورية التي يحدثها فينا تأثير مؤثر خارجي (أو داخلي كحركات المعدة و الأمعاء مثلا) في عضو من أعضائنا الحاسة.
و لكن هل يقف الحد عند هذه الآثار النفسية ؟
الواقع أن الأشياء التي نراها هي مثلا هذا الكتاب الموجود فوق الطاولة, و هو كتاب علم النفس, و الأصوات التي نسمعها هي مثلا صوت الآلة الكاتبة.....
معنى ذلك أن هذه الظواهر ليست إحساسات خالصة مجردة محضة , بل أنها إدراك . نحن لا نحس الأشياء مجردة و منعزلة , بل ندركها: نتعرف عليها في المكان , كما نتعرف على علاقاتها بالأشياء الأخرى و بذواتنا ذاتها , علاوة على ما نعطيه إياها من معان و دلالات نتيجة خبرتنا و تجربتنا الماضية .فهل معنى ذلك أنه ليست هناك إحساسات محضة , وأن كل إحساس هو إدراك ؟لقد كان علماء النفس قديما و خاصة أصحاب الاتجاه العقلي في الدراسات السيكولوجية , يفرقون بين الإحساس و الإدراك باعتبار أنهما حادثتان نفسيتان مستقلتان , الأولى منهما مرحلة أو مقدمة للثانية , و حسب رأي هؤلاء: يحس الإنسان أولا , ثم يقوم بعملية عقلية تالية : بعملية إدراك يترجم بواسطتها إحساساته, و يتممها و ينسق بينها مستعينا بالصور العقلية التي لديه, و الذكريات التي اكتسبها ,و الخبرات التي تجمعت عنده بفضل التجارب التي عاناها . فالإدراك بهذا الاعتبار هو عملية تركيب و مزج يقوم بها العقل لإعطاء صبغة موضوعية لإحساساته . و بعبارة أخرى إن الإحساس في نظر هؤلاء ظاهرة ذاتية لابد من تدخل العقل لتحويلها إلى ظاهرة موضوعية أي إلى إدراك, ومن ثمة فإن علاقاتنا بالعالم الخارجي تبدأ على شكل إحساسات ثم تتحول بتدخل قوانا العقلية إلى إدراك , ومن هنا يقولون أن العامل الذي يلعب دورا أساسيا في عملية الإدراك هو العامل الذاتي لا العوامل الموضوعية .
تلك خلاصة نظرية أصحاب الاتجاه العقلي في علم النفس , و هي نظرية لاقت معارضة شديدة , خاصة من أقطاب و إتباع المدرسة الألمانية المعروفة بمدرسة الجشطلت.
يرى الجشطلتيون أن الشيء الأساسي الذي تبنى عليه تجاربنا و علاقاتنا بالعالم الخارجي و بالتالي إدراكنا هو " الصورة " أو الصيغة أو الشكل . فالإنسان حسب رأى هؤلاء لا يتعرض لتأثير حسي واحد, منفرد, منعزل, بل أن ما يواجهنا دوما, هو عبارة عن صور و صيغ و أشكال. نحن لا نحس بالحمرة كلون , ولكن ندرك الشيء الأحمر , و إدراكنا لهذا الشيء يتم على شكل صورة أي على شكل " كل " منظم يتألف من عناصر و أجزاء متداخلة , ومن تأثيرات متتالية صادرة من مجال أو عدة مجالات للإحساس , تحدث فينا أثرا نفسيا سرعان ما يدخل ضمن حالتنا الذهنية التي نكون عليها آنئذ . إن الواحد منا عندما يرى شيئا , يراه ككل , ويصدر عليه في نفس اللحظة حكما معينا : أرى أمامي شجرة بكامل هيأتها , وفي وسط من الأشياء الأخرى يقل اهتمامي بها لانشغالي بالشجرة كوحدة مستقلة و لاهتمامي بالتعرف على خصائصها و مميزاتها فهي مثلا شجرة برتقال عزيزة لدي . ثم أسمع صوتا، لا مجرد صوت, بل صوت أطفال يلعبون الكرة و يتصايحون في هذه الساحة التي تطل عليها حجرتي, و هو صوت يقلقني كثيرا لأني منشغل بالكتابة.
و هكذا فالجشطلتيون يرون أن الإدراك ليس مجموع إحساسات يضاف بعضها إلى بعض , بل هو عملية واحدة يتعرف بها الإنسان على صيغة معينة . و العنصر الأساسي في هذه العملية ليس هو ما نخلعه على إحساساتنا من صور عقلية , بل أن الذي يلعب الدور الحاسم في هذه الحادثة النفسية - الإدراك- هو الشيء المدرك نفسه و الخصائص التي تميزه و تبرزه , أعني العناصر المسيطرة فيه و التي تعطيه صيغة معينة فالعوامل الأساسية في الإدراك إذن هي عوامل موضوعية قد تكون راجعة إلى تقارب الأجزاء أو تشابهها أو الاتصال أو البروز أو غير ذلك .
و قريب من رأى الجشطلتيين ما يراه المهتمون بالدراسات السيكولوجية من ذوي المنهج الظواهري : إن هؤلاء أيضا يرفضون أن يكون هناك شيء اسمه الإحساس المجرد . فهم ينطلقون في آرائهم من قولة "هوسرل" المعروفة : " الشعور هو شعور بشيء " . ومن ثمة , يمكن , بل يجب . القول بأن كل إحساس هو دوما إحساس بشيء أي إدراك.
ليس هناك في نظر هؤلاء أي انفصال بين الإنسان و العالم, فنحن ندرك العالم بما فيه جسمنا في وحدة تامة شاملة, و إدراكنا له لا يخلقه و إنما يطلعنا عليه. و العالم الذي ندركه ليس كل العالم الذي يوجد , فالفكر الذي يدرك يقوم في نفس الوقت بعملية حذف , بعملية اختيار , ذلك لأننا لا ندرك مجرد الإدراك و لا ندرك الأشياء كأشياء فقط بل إننا نتجه إلى معاني هذه الأشياء و إلى ما تستعمل فيه . فالأشياء لا وجود لها بالنسبة إلينا إلا بما نعطيه لها من معان فهذا القضيب الذي بين أصابعي هو قلم أي أداة للكتابة و هذا الجسم الخشبي الذي بازائي هو كرسي أي أداة للجلوس...الأشياء إذن أدوات, و نحن الذين نخلع عليها معنى الأداة, و إدراكنا لها مقرون بالمعنى الذي نعطيه لها. لذلك فعلاقتنا بالعالم الخارجي ليست مبنية على مجرد إحساسات لا معنى لها بل أنها علاقة فهم و اختيار , علاقة تأويل و تفسير.
و هكذا , فسواء نظرنا إلى الإدراك باعتباره حادثة نفسية تتحكم فيها صيغ المدركات وأشكالها وخصائصها كما يقول الجشطلتيون , أو باعتباره عملية تأويل و إعطاء معنى للشيء المدرك كما يؤكد الفينومينولوجيون , فإنه -أي الإدراك - عملية تتم دفعة واحدة , لا على مراحل , أي إنها ليست عملية تأليف و تركيب لمجموعة من الإحساسات و بالتالي فإن الإحساس المحض لا وجود له , ما دام الشخص الذي يحس كائنا له تجاربه و خبراته الماضية , ينظر إلى موضوعات العالم على ضوء هذه التجارب و الخبرات .
وإذا كان لا بد من إعطاء مدلول واقعي للإحساس المجرد, فيجب أن نتلمس هذا المدلول بعيدا عن الرجل في أحوال عادية, كأن نبحث عنه مثلا عند الصبي أو لدى الراشد في ظروف غير عادية.
نعم إن ما يميز الصبي عن الراشد كونه فقيرا من حيث التجارب و الخبرات , فالطفل في مراحله الأولى عاجز عن التمييز بين الأشياء , و عاجز بالأحرى عن إدراك العلاقات بينها . فهو يحس الأشياء و لا يفهم معناها.قد يستيقظ الطفل من نومه بسبب ضجيج قوي فيبكي , و لكنه لا يفقه للصوت الذي أيقظه , بخلاف الراشد فانه سرعان ما يتبين مصدر الصوت كأن يكون مثلا ناتجا عن قوة الريح و بقاء النافذة غير محكمة الإغلاق , لذلك فهو يفهم في التو . العلاقة بين الريح و ترك النافذة مفتوحة فينهض لأحكام غلقها لكي لا تتكرر الحادثة.
إن الفرق بين الحالتين واضح, و هو أن الطفل أحس فقط بالصوت فإحساسه هنا مجرد. أما الرجل فقد أدرك الصوت مصدره, معناه و نتائجه.على انه قد يحدث للرجل إن يحس مثل إحساس الطفل , و ذلك كما يحدث في حالات خاصة , كحالة ذهول عميق قبيل النوم أو بعيده مباشرة حيث تعتري المرء إحساسات غامضة لا يتبين معناها فهي أشبه ما تكون بالإحساسات المجردة . أما الرجل العادي , و في أحوال عادية , فانه من الصعب إن ننسب إليه إحساسات مجردة اللهم إلا من قبيل الاعتبار الذهني فقط .
أما من حيث الواقع فالراشد "لا يحس الأشياء بل يدركها" كما عبر بذلك الفيلسوف الأمريكي "وليم جيمس" فالأشياء , موضوع الإحساس , تقدم نفسها كصيغ و أشكال ذات خصائص و مميزات , كما أن الشخص الذي يلتقي هذه الصيغ و الأشكال , يتلقاها كذات عارفة مزودة بجملة من الخبرات و التجارب , و من ثمة هو يدركها في نفس اللحظة الذي يحس بها, فلا مجال للفصل بين الإحساس و الإدراك فهما معا ظاهرة نفسية واحدة تطلعنا على العالم الخارجي الذي يربطنا معه حوار دائم و علاقات شتى.
محمد عابد الجابري و آخرون/الإنشاء الفلسفي